الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال أيضًا: ثم ترك عبد المطلب الحلقة، وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه، وأصبح أبرهة بالمغمس، وقد تهيأ للدخول، وهيأ جيشه، وهيأ فيله، وكان فيلًا لم ير مثله في العظم والقوة، ويقال كان معه اثنا عشر فيلًا، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم، ثم أخذ بإذنه، وقال له أبرك محمود وارجع راشدًا من حيث جئت، فإنك ببلد الله الحرام، فبرك الفيل، فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول في رأسه، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه، ومرافقه، ففزعوه ليقوم فأبى فوجهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك فصرفوه إلى الحرم، فبرك وأبى أن يقوم، وخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل، وأرسل الله عزّ وجلّ طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره أمثال الحمص، والعدس، فلما غشين القوم أرسلنها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك، وليس كل قوم أصابت وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي جاؤوا منه ويتساءلون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، ونفيل ينظر إليهم من بعض الجبال وفي ذلك يقول نفيل: وخرج القوم وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق، ويهلكون في كل منهل، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فجعل تتساقط أنامله كلما سقطت أنملة تبعتها مدة من قيح، ودم، فانتهى إلى صنعاء، وهو مثل فرخ الطّير، فيمن بقي من أصحابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، ثم هلك قال الواقدي: وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم، والفيل الآخر شجعوا، فحصبوا أي رموا بالحصباء، وقال بعضهم أنفلت أبو يكسوم وزير أبرهة، وتبعه طير، فحلّق فوق رأسه حتى بلغ النّجاشي فقص عليه القصة، فلما أنهاها وقع عليه حجر من ذلك الطير، فخر ميتًا بين يدي النجاشي قال أمية بن أبي الصلت: وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة يستطعمان الناس، وزعم مقاتل بن سليمان أن السبب الذي جرأ أصحاب الفيل، أن فئة من قريش أججوا نارًا حين خرجوا تجارًا إلى أرض النّجاشي، فدنوا من ساحل البحر، وثم بيعة للنَّصارى تسميها قريش الهيكل، فنزلوا فأججوا النّار واشتووا، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف، فهاجت الريح، فاضطرم الهيكل نارًا فانطلق الصّريخ إلى النّجاشي فأسف غضبًا للبيعة، فبعث أبرهة لهدم الكعبة، وكان في مكة يومئذ أبو مسعود الثقفي وكان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتو بمكة، وكان رجلًا نبيهًا نبيلًا تستقيم الأمور برأيه، وكان خليلًا لعبد المطلب فقال له عبد المطلب: ماذا عندك فهذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك؟ فقال أبو مسعود اصعد بنا إلى حراء، فصعد الجبل فقال أبو مسعود لعبد المطلب اعمد إلى مائة من الإبل، فاجعلها لله وقلدها نعلًا، واجعلها لله ثم أبثثها في الحرم، فلعل بعض السودان يعقر منها شيئًا، فيغضب رب هذا البيت، فيأخذهم ففعل ذلك عبد المطلب فعمد القوم إلى تلك الإبل، فحملوا عليها، وعقروا بعضها وجعل عبد المطلب يدعو فقال أبو مسعود إن لهذا البيت ربًا يمنعه فقد نزل تبع ملك اليمن صحن هذا البيت، وأراد هدمه فمنعه الله وابتلاه، وأظلم عليه ثلاثة أيام، فلما رأى تبع ذلك كساه القباطي البيض، وعظمه ونحر له جزورًا، فانظر نحو البحر، فنظر عبد المطلب فقال: أرى طيرًا بيضاء نشأت من شاطئ البحر فقال ارمقها ببصرك أين قرارها قال أراها قد دارت على رؤوسنا، قال: هل تعرفها؟ قال والله ما أعرفها ما هي بنجدية، ولا بتهامية، ولا عربية، ولا شامية، قال: ما قدرها؟ قال: أشباه اليعاسيب في مناقيرها حصى، كأنها حصى الخذف قد أقبلت كالليل يتبع بعضها بعضًا أمام كل رفقة طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق، فجاءت حتى إذا حاذت عسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم، فلما توافت الرجال كلهم أهالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها مكتوب على كل حجر اسم صاحبه، ثم إنها رجعت من حيث جاءت فلما أصبحا انحطا من ذورة الجبل، فمشيا حتى صعدا ربوة، فلم يؤنسا أحدا ثم دنوا فلم يسمعا حسًا فقال بات القوم سأمرين، فأصبحوا نيامًا فلما دنوا من عسكر القوم فإذا هم خامدون وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى تقع في دماغه، وتخرق الفيل والدّابة ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه، فعمد عبد المطلب، فأخذ فأسًا من فؤوسهم، فحفر حتى أعمق في الأرض، فملأه من الذهب الأحمر، والجواهر، وحفر لصاحبه مثله فملاه ثم قال لأبي مسعود اختر إن شئت حفرتي وإن شئت حفرتك، وإن شئت فهما لك معًا فقال أبو مسعود فاختر لي على نفسك، فقال عبد المطلب إني أرى أجود المتاع في حفرتي فهي لك وجلس كل واحد منهما على حفرته ونادى عبد المطلب في الناس فتراجعوا، وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به، وساد عبد المطلب بذلك قريشًا، وأعطته القادة فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود في أهليهما في غنى من ذلك المال، ودفع الله عزّ وجلّ عن كعبته، واختلفوا في تاريخ عام الفيل، فقيل كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة وقيل بثلاث وعشرين سنة، والأصح الذي عليه الأكثرون من علماء السير، والتواريخ، وأهل التفسير أنه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يقولون ولد عام الفيل، وجعلوه تاريخًا لمولده صلى الله عليه وسلم وأما التّفسير فقوله عز وجل: {ألم تر} أي ألم تعلم، وذلك لأن هذه الواقعة ك انت قبل مبعثه بزمان طويل إلا أن العلم بها كان حاصلًا عنده لأن الخبر بها كان مستفيضًا معروفًا بمكة وإذا كان كذلك فكأنه صلى الله عليه وسلم علمه وشاهده يقينًا، فلهذا قال تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل}، قيل كان معهم فيل واحد، وقيل كانوا فيلة ثمانية، وقيل اثني عشر وإنما وحده لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم الذي كان يقال له محمود، وقيل وإنما وحده لو فاق الآي، وفي قصة أصحاب الفيل دلالة عظيمة على قدرة الله تعالى وعلمه، وحكمته إذ يستحيل في العقل أن طيرًا تأتي من قبل البحر تحمل حجارة ترمي بها ناسًا مخصوصين، وفيها دلالة عظيمة على شرف محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزة ظاهرة له وذلك أن الله تعالى إنما فعل ذلك لنصر من ارتضاه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الدّاعي إلى توحيده، وإهلاك من سخط عليه، وليس ذلك لنصرة قريش، فإنهم كانوا كفارًا لا كتاب لهم، والحبشة لهم كتاب فلا يخفى على عاقل، أن المراد بذلك نصر محمد صلى الله عليه وسلم فكأنه تعالى قال أنا الذي فعلت ما فعلت بأصحاب الفيل تعظيمًا لك، وتشريفًا لقدومك، وإذ قد نصرتك قبل قدومك فكيف أتركك قبل ظهورك.{ألم يجعل كيدهم} يعني مكرهم، وسعيهم في تخريب الكعبة {في تضليل} أي تضييع وخسار، وإبطال ما أرادوا أضل كيدهم، فلم يصلوا إلى ما أرادوا من تخريب البيت، بل رجع كيدهم عليهم، فخربت كنيستهم، واحترقت، وهلكوا وهو قوله تعالى: {وأرسل عليهم طيرًا أبابيل} يعني طيرًا كثيرة متفرقة يتبع بعضها بعضًا، وقيل أبابيل أقاطيع كالإبل المؤبلة، وقيل أبابيل جماعات في تفرقة قيل لا واحد لها من لفظها، وقيل واحدها أبالة، وقيل أبيل، وقيل أبول مثل عجول قال ابن عباس: كانت طيرًا لها خراطيم، كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب، وقيل رؤوس كرؤوس السباع، وقيل لها أنياب كأنياب السباع، وقيل طير خضر لها مناقير صفر، وقيل طير سود جاءت من قبل البحر فوجًا فوجًا مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه، وحجر في منقاره لا تصيب شيئًا إلا هشمته، ووجه الجمع بين هذه الأقاويل في اختلاف أجناس هذه الطير أنه كانت فيها هذه الصفات كلها فبعضها على ما حكاه ابن عباس، وبعضها على ما حكاه غيره، فأخبر كل واحد بما بلغه من صفاتها، والله أعلم.قوله عزّ وجلّ: {ترميهم بحجارة} قال ابن مسعود: صاحت الطّير، ورمتهم بالحجارة، وبعث الله ريحًا، فضربت بالحجارة، فزادتها شدة، فما وقع حجر منها على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره {من سجيل} قيل السّجيل اسم علم للدّيوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، واشتقاقه من الإسجال، وهو الإرسال، والمعنى ترميهم بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون بما كتب الله في ذلك الكتاب، وقيل معناه من طين مطبوخ كما يطبخ الأجر، وقيل سجيل حجر، وطين مختلط، وأصله سنك، وكل فارسي معرب، وقيل سجيل الشّديد.{فجعلهم كعصف مأكول} يعني كزرع وتبن أكلته الدّواب، ثم راثته، فيبس، وتفرقت أجزاؤه شبه تقطع أوصالهم، وتفرقها بتفرق أجزاء الرّوث، وقيل العصف ورق الحنطة، وهو التبن، وقيل كالحب إذا أكل، فصار أجوف وقال ابن عباس: هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة كهيئة الغلاف، والله تعالى أعلم. اهـ.
|